للوهلة الأولى لا أعرف ما إذا كانت آلام البشرية في ازدياد أم ما إذا كان وعيُنا لهذه الآلام هو ما هو في ازدياد. البادي أنّ أمرين يتفاقمان : الانحلال الأخلاقي وتفشّي الآلام ! هل ثمة رابط بينهما ؟ صعب، بشريّاً، تأكيد العلاقة بين الحالين. أمّا روحياً فالتّرابط تلقائي ! الانحلال الأخلاقي يذهب بنعمة الله . يصبح الانسان عرضة للفساد . طبيعة الانسان تأخذ في التّفكّك. عندنا أنّ نعمة الله هي القوّة التي تحفظ تماسك الانسان ووحدته . إذ تأخذ قوى الانسان في الوهن والتّشرذم تأخذ السّلامة والعافية ، على كلّ صعيد ، بالضمور.
هذا يعبّر عن ذاته بالآلام والأوجاع. هذه تزيد أو تنقص باعتبار تماسك الانسان الدّاخلي ، ومن ثم باعتبار حضورنعمة الله وعملها في النّفس . هكذا يصير بإمكاننا أن نستنتج أنّ تفاقم آلام البشرية وراءه خلل روحي كياني ، وتالياً تداع أخلاقي . حال النّفس والجسد من حال القلب أوالكيان. وكذا ، على نطاق أوسع ، حال السّياسة والاقتصاد والاجتماع ، وحتى وضع البيئة والمناخ . هي ، صدّق أو لا تصدّق ، من الحال الدّاخلية في الانسان . القوى الفاعلة فيه تؤثّر في كلّ ما يختصّ به وفي كلّ محيطه. طبعاً، الانسان ، أيضاً، بالمقابل ، يتأثر بكلّ ما هو قائم فيه ومن حوله. ولكن يبقى ما للانسان هو المصدر الأساس في التّأثيرات الحاصلة في مناخه الدّاخلي والخارجي . ولعلّ ، في هذا الواقع ، صدى لماورد في سفر التّكوين لمباركة الرّبّ الإله البشرية ذكراً وأنثى وقوله لهم: "أثمرواوأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السّماء وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض..." (تك 28:1). لاحظ ، بخاصة ، تعابير إخضاع الأرض والتّسلّط على المخلوقات الأخرى . هذا سلطان معطى للانسان من فوق . طبعاً ، عندما ترتحل النّعمة من العلى ، وتهن قوى الانسان الدّاخلية فإنه يدخل في دائرة التاثّر السّالب بالتّفكك الذي هو فيه وبما حوله . وبالعودة إلى الكلام على حالة الآلام والأوجاع لديه فإنّ مقاومة الانسان ومناعته تضعفان ، في حال هذا الوهن الدّاخلي . الرّوح تمرض فينتج عن ذلك مرض النّفس والجسد وتالياً تتفاقم الآلام والأوجاع . حتى الطّبيعة ، الشّجر والبقول وكلّ حيوان والطّيور والحشرات تمرض نتيجة ذلك وتتألّم . امتداداً لهذا الواقع، الأحوال الجويّة تختلّ ، والأرض تهتز الزلازلَ والزّوابع تتفلّت. ليس عن عبث نطلب من أجل اعتدال الأهوية ! هذا كلّه لأنّ الجميع قائم بالبركة الإلهية. فمتى انحرم الانسان والخليقة من البركة فإنّ الكلّ يضطرب ويمسي برسم التّداعي.
الانحلال الأخلاقي ، اليوم، يتزايد، سواء من حيث الحجم أو من حيث السّرعة ، بشكل ، لا نبالغ إذا قلنا إنّه لا مثيل له في التّاريخ من قبل . وسائل الاتصال وتجارة الإفساد ، بين الناس ، وحبّ المال يُحرِّك ويستغل أهواء الانسان الكامنة فيه إلى أبعد الحدود مطيحاً الأخلاق العامة ومُفسِداً سلامة العلاقات . الكذب والفسق والاستغلال والغشّ وما إليها يفوق كلّ تصوّر. هذه وغيرها من ألوان الانحلال لم تعد مألوفة وحسب بل مرغوب فيها تماماً . تطبّعت! قلةٌ الضّمائرُ التي لا زالت تخزها مثل هذه المفاسد . الرّذائل تستحيل ، في الوجدان ، فضائل ! شئت أم أبيت أنت أمام (صادوم وعمورة ) معمّمة !
في المقابل ، الأمراض النّفسية والجسدية تتفاقم ، رغم التّقدّم الكبير الذي أحرزته العلوم الطّبِّية. الطّبّ لا يعالج الأسباب العميقة لما هو حاصل . يتعاطى النّتائج والظّواهر المنبعثة من الشواش الدّاخلي . رحيل سلام القلب عن النّفس بتأثير ما تحدثه الرّذائل والمفاسد فيها يجعل سيل القيح الدّاخلي لا يتوقّف . الأطباء وعلماء النّفس يخبطون ، في مجال العناية بالنّفوس والأجساد ، خبط عشواء رغم أنّ بعض الطّبّ والأدوية تعزية من الله . لا هم محيطون ، واقعًا، لا بأسباب الظّواهر والحالات التي يواجهون ولا بما تخلّفه تدابيرهم من نتائج . تعاملهم ، بعامة، محصور بحالات مرضيّة . يرمّمون عضواً أو يزيلون ألماً أو يتصدّون لعوارض أو ما شاكل... عملهم مجتزأ. ما قبله معتم وما بعده أيضًا. نظرتهم إلى الانسان ككائن لا تكامل فيها. طبيعة الانسان يجهلونها أويحيِّدونها من حيث هي مسألة فلسفية لا علمية . الواقع الرّوحي للانسان ، تكوينه ،عمل النّعمة في حياته ، علاقته بالله ، تأثير ما هو من الله أو ما هو من الشّيطان في كيانه ، ومن ثمّ في تركيبه وفي استنارة هذا التّركيب وتكامله أو في ادلهمام هذا التّركيب وتبعثره ، هذا الواقع الرّوحي ليس داخلاً ، بحال ، في أفق الأطباء وعلماء النّفس . لذلك ، من حيث يدرون أو لا يدرون ، ينطلقون من جهل أو لا مبالاة ويصبّون في جهل أو لا مبالاة . فسحة علمهم ومعرفتهم هي بين جهل وجهل ولا مبالاة ولا مبالاة.
لعلّ هذا يفسِّر تزايد الأمراض والآلام والأوجاع رغم التّقدّم العلمي والطّبّي الحاصل . الطّبّ العضوي والنّفسي يفعل فعله بلا شك، لكنّه ، في سياق الواقع الكياني للانسان ، وما يتعرّض له من انحلال داخلي ، يبدو كأنه ، من حيث القدرة ، دون ما ينبعث لدى الانسان من علل ، إن لم نقل أنّه ، في أحوالٍ كثيرة ، يساهم من حيث لا يدري العلماء والأخصّائيون ، في إفراع حجمٍ يتعذّر حصرُه من الأدواء النّاجمة عن العلاجات المتوخّاة عينها.
هذا وفي خضّم الأمراض والآلام والأوجاع المتنامية لا فقط الذين يستغرقون في الانحلال الأخلاقي يعانون المزيد بل أيضاً الذين يحفظون أنفسهم في البرّ في أحوال كثيرة . الأوائل يكابدون الشّدائد لا فقط نتيجة ما يخوضون فيه من رذائل، بل ، أيضاً ، لأنّ الشّدائد تستحيل للعديدين روادع وعلاجات روحية إذ تدفعهم إلى الصّحو والتّوبة. الآلام قد تبعث على الارتداد عن الخطيئة وتعيد الانسان إلى نفسه ومن ثمّ إلى ربّه. هذا بالنسبة للأوّلين ،المستغرقين في مفاسدهم ، أما بالنّسبة للسّالكين في البرّ فإنّ آلامهم تكون استشهادية فدائية. استشهادية بمعنى أنهم يشهدون لإيمانهم بالله وتسليمهم ذواتهم لرعايته في أقسى الظّروف. وفدائية بمعنى أنّهم يشتركون في آلام الكثرة. هذا يأتي كفعل محبّة واتحاد بالضّالين وكمدّ لعمل يسوع الفدائي لخلاصهم ، بمثابة كفّارة لخطاياهم . البريء يفتدي الأثمة والأبرياء يمدّون ، في أجسادهم ، فداء البريء . عمل هؤلاء هو ما يجعل الخليقة تستمر وإلا تتلف بخطايا العالمين ، وهو ما يجعل النعمة المخلِّصة تعمل سرّياً على خلاص البشرية.
على هذا تبدو البشريّة وكأنها آيلة إلى هلاك فيما يعمل الألم على إيقاظ النّفوس المخدَّرة بالخطايا وتبقى الفرصة متاحة للأثمة، بانسكاب محبة البار يسوع ، وبالمعيّة الأبرار القدّيسين ،عليهم ، ليكون لهم أن يخلصوا...