موعظة الجمعة العظيمة الأب يوسف اسطيفان البناء 3
التاريخ: الأربعاء 31 مارس 2010
الموضوع:


أكمل الرب يسوع كل أوجه الصليب وبحسب التدبير الإلهي، ليعيد للإنسان كرامته ومكانته اللائقة في علاقته بالله من جديد؛ وبذلك أعطتنا السماء راية ترفع لأجل الحق بها ننجو، بل أعطتنا سلما حيّاً نستطيع بواسطته أن نصل إلى العلاء، ونعود إلى حظيرة الآب والخلود المجيد. ترى ما هي استحقاقات الصليب علينا بعد كل ما تم عليه من أجلنا؟ فالطريق والحق والحياة، يسوع، يوم ارتفع على الصليب علمنا أن الإنتماء إليه هو صليب، وان الإنضمام إلى حظيرته هو صليب، إذ جعل الصليب راية للحق والركن ألأساس في تبعيتنا للنور والحق، قائلاً: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (مت16: 24).

صليب ثقيل نحمله بكل محبة وقناعة ورضا، متحملين معه الضيقات ومجتازين المعاناة وغالبين هموم الحياة، للإنطلاق والسمو وراء يسوع نحو السماوات، فقد وُهب لنا لأجل المسيح لا أن نؤمن فقط بل أن نتألم أيضاً لأجله (في1: 29)، وأن لا نعرف في العالم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً (1كو2: 2)، ليكون الصليب نصب أعيننا دائماً في الحياة، وخشبة الصليب نقطة التقائنا دائما مع الله، وشجرة حياة تؤتينا ثمار انتمائنا الصادق للمسيح، لا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيماننا بحكمة الناس بل بقوة الله (1كو2: 4 و 5). والكنيسة المقدسة بأبنائها ومنذ العصور المسيحية الأولى آمنت بهذا المبدأ وطبقته بكل أمانة ورضا ومحبة وسرور، إذ حملت الصليب بكل ثقله وأوجاعه وأتعابه ومعاناته وسارت وراء يسوع بخطوات ثابتة عبرت عنها صرخة رسول الأمم المدوية: مع المسيح صلبت فأحيا، لا أنا بل المسيح يحيا فيّ (غل2: 20)؛ فملحمة الصليب فعلٌ إيماني مصدره الكلمة الحق، فيه يتجسد يسوع المسيح مصلوباً في العالم من جديد كل يوم بهياكلنا ونفوسنا وأجسادنا من خلال المبادئ الإيمانية والفضائل المسيحية التي نمارسها بمحبة باذلة نقية وبكل التزام وقداسة وحكمة إنجيلية، مع نبذ كل ما هو شر وعنف وخطية، رغم كل ما نلاقيه من محن وتحديات، إذ نتحمل ذلك وصولاً إلى حد سفك الدم وتقديم الذات ذبيحة حية لأسم رب السماوات. فالمؤمن يصلب مع المسيح من خلال حياته التي يعيشها على الأرض، ويصلب نفسه فيها عن كل المغريات والمتاهات والتفاهات وعن كل ما يبعده عن الرب، ليغلب، إذ لا غلبة للمؤمن إلاّ بحمل الصليب، ولا انتصار له إلاّ بملحمة الصليب، والسمو براية الحق من جديد تماما كيسوع الفادي الحبيب. وهكذا تمتد الكنيسة المقدسة بمؤمنيها في القرن الحادي والعشرين، فالتواصل اليوم أيها الإخوة مع ملحمة الصليب الخالدة التي أتمها الرب يسوع لا يصنعه الكلام المنمق المعسول في الفضائيات، ولا المقابلات التلفزيونية المفبركة وما يحكى في الندوات، ولا بيانات الإحتجاج الرنانة والتصريحات، ولا تمزيق وحدة الكنيسة وجسد يسوع الطاهر إلى طوائف متفرقة وأحزاب متناحرة وتكتلات، ولا الأجساد العارية المقززة تتمايل كالأفاعي الرقطاء إغراءً وعثرة وتشويهاً للمسيحية في الحفلات، ولا التراكض والتزاحم والتنافس على مراكز توزيع الخزّ من مال لا يغني وتفاهة المقتنيات. ملحمة الصليب تتجسد اليوم بكلمة الله معلنة في الكتاب المقدس، لكن ليس بحروفه وإنما بروحه، تتجسد في بلوغنا وحدة الكلمة في وجداننا ووحدة الإيمان في حياتنا، تتجسد بوحدة الكنيسة في الجهاد الإيماني لأبنائها الإبرار أبطال الإيمان، مقتدين في ذلك بيسوع المصلوب كي ينالوا الغلبة، يغلبون بروحية وثبات المطران الشهيد مار بولس فرج رحو وقد تضرجت جثته الهامدة بالدماء وتلطخت بتراب العراء، إذ سيق كنعجة وديعة إلى الموت، ضحية تناحر القوى المتسلطة ونزوات التائهين في دروب المغريات والأحقاد؛ يغلبون بملحمة الصمود الإيمانية للأب الشهيد بولس اسكندر بهنام وبقية الشهداء ممن فصلت هاماتهم عن الأجساد؛ يغلبون بدماء طاهرة زكية سفكت للشيخ منذر السقا والأب رغيد كني والأب يوسف عادل عبودي والأخوان هيثم وطارق وبسام وبسمان ووحيد وعزيز ولينا وسنابل وسالم ووعد .. .. و: (ش، هـ، د، أ، ء) .. عشرات من شابات وشبان، حملوا بكل فخر فضائل المحبة والوداعة والتواضع والإيمان، ومزقت أجسادهم بسيل من رصاص الغدر وشظايا التفجيرات التي أفرزتها سياسات الإحتلال والمخططات الشنعاء. ملحمة الصليب تتجسد بمئات العوائل التي هجّرت قسراً ونهبت ممتلكاتها، ودمّرت بيوتها، واضطرّت أن تتنازل عن أتعاب السنين وعرق الجبين تمسكاً بإيمانها، ومن أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّها، وهي تصرخ مع الرسول بولس: خسرتُ كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيه ... لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة ألامه، متشبهاً بموته، (في3: 7 – 10). هكذا يغلب مؤمنو كنيسة الألفية الثالثة للميلاد كبقية إخوتهم الذين سبقوهم إلى الأمجاد، وجل غايتهم الإنتماء لا إلى مملكة أرضية دنيوية زائلة، بل إلى مملكة المسيح في السماوات، المملكة الأبدية التي عرشها مذبح من هامات المعترفين والشهداء فوق جلجثة الحياة، ورايتها صليب الحق المضرج بدماء زكية لفلذات الأكباد، وصولجانها حربة تفتح كل يوم جنب الكنيسة ليستمر تدفق نبع الحياة الذي يلهب قلب كل من يرتوي منه بحب الإنجيل وينير الأذهان لفهم كلمة الحياة، وتاجها إكليل شوك يدمي الجبين وتنبعث منه رائحة المسيح الزكية منتشرة في الأجواء، والدخول إليها من باب ضيقة وطريقها مرصوفة بالأشواك والإهانات، وحمل صليب ثقيل نرحب معه بالجلدات، في معاناة يتحول معها عرق الجبين إلى قطرات دم نازفات، وملهمنا في كل ذلك الروح القدس، روح المعرفة والفهم والمشورة والحكمة ، الذي يرافق كل مؤمن في مسيرته ليبلغ الحياة الخالدة في الملكوت كما يرضاها الله ويشاء. هكذا يكون ملكوت الله حياة حقة يعيشها المؤمنون في الكنيسة المجاهدة على الأرض (لأن ها ملكوت الله داخلكم، لو17: 21)، وصولاً إلى الكنيسة المنتصرة في السماوات، حيث لا جوع ولا عطش ولا أتعاب ولا ضيقات، يرعاهم الحمل المذبوح الذي في وسط عرش السماء، ويقتادهم إلى ينابيع ماءٍ حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم (رؤ7: 15 – 17)، فهنيئا لهم إذ تمسكوا براية الحق، لينجوا من سقطة الممات. نرفع الأكف إلى الفادي يسوع في هذا اليوم المبارك، ونحن نستذكر يوم الصلبوت العظيم، أن يرحمنا برحمته ومحبته وعطفة وحنانه، وينقذنا من الضيقات والمحن التي نمر بها، ويحل الأمن والسلام في قلوبنا وربوعنا وبلادنا، ويرحم شهدائنا وأمواتنا، بجاه راية الحق التي ارتفع عليها لينقذنا، الصليب المقدس، إنه السميع المجيب، آمين.





أتى هذا المقال من سلام الى العراق
www.salamtoiraq.com

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
www.salamtoiraq.com/plugin.php?name=articles&file=article&sid=393